مـا أَبتَغي جَلَّ أَنْ يُسمَ
شرح البرقوقي
أَلاَ لا أُرِي الأَحــداث مَدحًـا ولا ذَمَّـا فمــا بَطشُـها جَـهلاً ولا كَفُّهـا حِلْمـا الأحداث: نوب الدهر ومصائبه. والبطش: الأخذ بغلبة وقوة. يقول: لا أحمد الحوادث السارة ولا أذم الضارة ؟ فإنها إذا بطشت بنا أو آذتنا لم يكن ذلك جهلا منها وإذا كفت عن البطش والضرر لم يكن ذلك حلما يعني أن الفعل في جميع ذلك ليس لها، وإنما تنسب الأفعال إليها استعارة ومجازا.
إلـى مثـلِ مـا كـانَ الفَتَى مَرجِعُ الفَتَى يعُـودُ كمـا أُبـدِي ويُكـري كما أَرمَى أبدي: هي أبدئ: أي أبدأه الله: أي خلقه، فأصله الهمز، و لينه للضرورة ؛ وأ كرى الشيء: نقص. وأرمى: أربى وزاد. يقول: إن كل واحد يرجع إلى مثل ما كان عليه من العدم ويعود إلى حالته الأولى كما أبدئ وينقص ما حدث فيه من الحياة كما زاد، وإذن لا ذنب للحوادث حتى أذمها أو أحمدها. هذا: وأكرى ؟ كما أنه بمعنى زاد- أتى بمعنى نقص، فهو من الأضداد، يقال أكرى الرجل: قل ماله أو نفد زاده. وقد أكرى زاده: أي نقص، قال لبيد:
كَذِي زادٍ مَتَى مَا يُكْرِ منهُ فَليسَ وَرَاءهُ ثقةٌ بِزَادِ
وقال الآخر يصف قدرا:
يُقسم ما فيها فإنْ هي قَسمت فذاكَ وَإن أَكْرَتْ فعن أهلها تكري
قسمت: عمت في القسم، وإن أكرت: أراد وإن نقصت، فعن أهلها تنقص: أي القدر.
لَــكِ اللّــهُ مـن مَفجوعَـةٍ بحبيبِهـا قَتيلَــةِ شَـوْقٍ غَـيرِ مُلحِقِهـا وَصْمـا لك الله: دعاء لها، و (من) - من مفجوعة-: زائدة، ومفجوعة، في موضع نصب على التمييز والوصم: العيب وعنى بحبيبها: نفسه. يدعو لها ويقول: هي مفجوعة قتلت بسبب شوقها إليه، وليس هذا الشوق مما يلحق بها عيبا، لأنه شوق الأم إلى ولدها.
بكَــيتُ عليهــا خِيفَـةٌ فـي حَياتِهـا وذاقَ كِلانــا ثكْــلَ صاحبِــهِ قِدْمـا
الثكل: الفقد. وقدما: قديما. يقول: كنت أبكي عليها في حياتها خوفا من فقدها، وصرب الدهر من ضرباته وفرق بيننا وتغربت عنها فذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قبل الموت، قالوا: وفي المصراع الأول نظر إلى بيت الحماسة:
فيبكِي إنْ نَأَوْا شَوْقًا إليهم ويَبْكِي إنْ دَنَوْا خَوْفَ الفراقِ
(من أبيات جميلة منها:
وَماَ في الأرض أشقَى من مُحِبٍّ وَإنْ وَجَدَ اَلهَوَى حلوَ المَذَاقِ
تراهُ باكِيا فيي كَلّ حِين مخافةَ فُرْقَةٍ أو لاشتياَقِ
فيبكي................. البيت وبعده:
فتسخُن عينُهُ عند التَّنَائِي وَتَسْخُن عينُهُ عند التلاقي
عَـرَفتُ الليـالي قَبـلَ مـا صَنَعَتْ بِنا فلَمـا دَهتنـي لـم تَـزِدْني بِهـا عِلْمـا يقول: كنت عالما بالليالي وتفريقها بين الأحبة قبل أن تصنع بنا هذا التفريق فلما دهتنا هذه المصيبة لم تزدني بها علما، قال العكبري : وهذا من قول الحكيم: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل حولها لم يجزع بحولها. ومن قول أبي تمام:
حَلَّمَتْنِي زَعَمْتُمْ وَأَرَانِي قَبْلَ هَذَا التَّحْلِيمِ كُنْتُ حَلِيمَا
ومن قول بعض العرب وقد مات ولده فلم يجزع فقيل له في ذلك، فقال أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
أَتاهــا كِتــابي بَعـدَ يـأسٍ وتَرحَـةٍ فمـاتت سُـرُورًا بـي فمُـتّ بهـا غَمَّا
الترحة: الاسم من الترح؛ وهو الحزن يقول: اشتد حزني عليها فكأني مت بها غما، و ماتت هي من شدة سرورها بحياتي بعد إياسها مني.
حَــرامٌ عـلى قلبـي السُّـرُورُ فـإنني أَعُـدُّ الـذي مـاتَت بِـهِ بَعدَهـا سُـمّا يقول: السرور حرام علي فإنني بعد موتها بالسرور أعده سما فأتجنبه وأحرمه على نفسي.
رَقـا دَمْعُهـا الجـاري وجَـفَّتْ جُفُونُها وفـارَقَ حُـبّي قَلبَهـا بَعـدَ مـا أَدْمَـى رقأ الدمع والدم: انقطع، فأصله الهمز ؛ ولكنه لينه هنا للضرورة يقول: لما ماتت انقطع ما كان يجري من دمعها على فراقي ويبست جفونها عن الدمع وسليت عني بعدما أدمى حبي قلبها في حياتها.
ولــم يُســلِها إِلا المَنايــا وإِنَّمــا أَشَـدُّ مِـنَ السُّـقْمِ الـذي أَذهَـبَ السُّقما يقول: لم يسلها عني إلا الموت وقد ذهب به ما نالها من السقم جزعًا على، ولكن الذي أذهب ذلك السقم كان أشد عليها من السقم كما قال أبو تمام:
أَقُولُ وَقَدْ قَالُوا اسْتَرَاحَ بِمَوْتِهَا مِنَ الْكَرْبِ رُوحُ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنَ الْكَرْبِ
ومثله له:
أَجَارَكَ الْمَكْرُوهُ مِن مِثْلِهِ فَاقِرةٌ نَجَّتْكَ مِنْ فَاقِرةٍ
(الفاقرة: الداهية الكاسرة لفقار الظهر.)
وكُـنْتُ قُبيـلَ المَـوتِ أَسـتَعظِمُ النَّوَى فقد صارَتِ الصُّغرى التَّي كانَتِ العُظْمى قبيل: تصغير قبل ؛ والنوى البعد. يقول: كنت قبل موتها استعظم فراقها فلما ماتت صارت حادثة الفراق صغيرة وكانت عظيمة، يعني أن موتها أعظم من فراقها.
هَبِينـي أخـذتُ الثـأرَ فيـكِ مِنَ العِدَى فكَـيفَ بـأخذِ الثـأرِ فيـكِ مـنَ الحُمَّى
لَوْ كُنْتَ تُمْنَعُ خاض نَحْوَكَ فِتيَةٌ مِنَّا بِحارَ عَوَامِلٍ وَشِفارِ
يقول: اجعليني واحسبيني بمنزلة من أخذ ثأرك من الأعداء لو قتلوك فكيف آخذ ثأرك من العلة التي قتلتك، وهي العدو الذي لا سبيل إليه قالوا وفيه نظر إلى قول عمران بن حطان:
وَلَمْ يُغْنِ عَنْكَ الْمَوْتُ يَا حَمْزَ إِذْ أَتَى رِجَالٌ بِأَيْدِيهمْ سُيُوفٌ قَوَاضِبُ
(حمز: ترخيم حمزة، وقواضب: قواطع: ) وأحسن فيه أبوالحسن التهامي:
لَوْ كُنْتَ تُمْنَعُ خَاضَ نَحْوكَ فِتْيَةٌ مِنَّا بِحَارَ عَوَامِلٍ وَشِفَارٍ
(عوامل: جمع عامل وعامل الرمح: صدره، والمراد الرماح نفسها، والشفار: جمع شفرة والشفرة ما عرض من الحديد وحدد، والمراد السيوف.)
ومــا انسَـدَّت الدنيـا عـليَّ لِضيقِهـا ولكِــن طَرفًــا لا أَراكِ بِـهِ أَعمَـى يقول: إنه قد صار لفقدها كالأعمى فانسدت عليه المسالك لذلك، لا لأن الدنيا قد ضاقت.
تَغَــرَّبَ لا مُســتَعظِمًا غَـيرَ نَفْسـهِ ولا قـــابِلاً إلاَّ لخالِقِـــهِ حُكْمــا يقول: ولدت مني رجلا تغرب عن بلاده: أي خرج عن بلده إلى الغربة لأنه لا يستعظم غير نفسه، فأراد أن يغادر الذين كانوا يتعظمون عليه بغيراستحقاق، ولا يقبل حكم أحد عليه إلا حكم اللّه الذي خلقه
ولا ســـالكًا إِلا فـــؤَادَ عَجاجَــةٍ ولا واجِـــدًا إلا لِمكْرُمَــةٍ طَعْمــا العجاجة: الغبار. يقول. ولا أسلك طريقا إلا قلب غبار الحرب، ولا أستلذ طعم شيء إلا طعم المكارم: يعني لا أجد لذتي إلا في الحرب والمكارم.
يَقُولـونَ لـي مـا أَنْـتَ فـي كُـلّ بَلْدَةٍ ومـا تَبتغـي؟ مـا أَبتَغي جَلَّ أَنْ يُسمَى ما أنت: قال بعض الشراح: أي ما أنت صانع. على حذف الخبر، أو ما تصنع على حذف الفعل وإبراز الضمير. وقال العكبري. (ما) واقعة على صفات من يعقل فإذا قال ما أنت، فالمراد أي شيء أنت فتقول كاتب أو شاعر أو فقيه. يقول: يقول الناس لي لما يرون من كثرة أسفاري: أي شيء أنت فإنا نراك في كل بلدة وما الذي تطلبه ؟ فأقول لهم: إن ما أطلبه أجل من أن يذكر اسمه، يعني قتل الملوك والاستِيلاء على ملكهم.
ومـا الجـمعُ بيـنَ الماءِ والنّارِ في يَدِي بِـأَصْعَبَ مِـنْ أَنْ أَجـمَعَ الجَـدَّ والفَهْما الجد: الحظ والبخت. يقول: إن الفهم والعلم والعقل لا تجتمع مع الحظ في الدنيا، وليس الجمع بين الضدين كالماء والنار بأصعب من الجمع بين الحظ والفهم: أي فهما لا يجتمعان كما لا يجتمع الضدان، وهذا كالتفسير لقول الحمدوني:
إِنّ المُقَدِّمَ فِي حِذْقٍ بِصَنْعَتِهِ أَنّى تَوَجّهَ فِيهَا فَهُوَ مَحْرُومُ
وقد وفينا القول على هذا المعنى في غير موضع من هذا الشرح.
وإِنّــي لَمِــن قَــومٍ كـأنَّ نُفوسـهُم بِهـا أَنـفٌ أَنْ تَسـكُنَ اللحـمَ والعَظْمَـا الأنف: الاستنكاف من الشيء. يقول: إني من قوم ديدنهم التعرض أبدا للحرب ليقتلوا، فكأن نفوسنا ترى السكنى في أجساد هي لحم وعظم عارا تأنف منه، ومن ثم تتطلع لسكنى غيرها لتتخلص من هذا العار: أي تختارالقتل على الحياة. قال الواحدي ولو قال: كأن نفوسهم لكان أوجه لإعادة الضمير على لفظ الغيبة، لكنه قال نفوسنا لأنهم هم القوم الذين عناهم، ولأن هذا أمدح.
كَـذَا أَنـا يـا دنْيـا إِذا شـئْتِ فـاذْهَبي ويـا نَفْسِ زيـدي فـي كَرائِههـا قُدمـا الكرائه: جمع كريهة، فعيلة بمعنى مفعولة. يقول- للدنيا-: أنا كما وصفت نفسي لا أقبل ضيما ولا أسف لدنية، فاذهبي عني إن شئت فلست أبالي بك ؛ ويا نفس زيدي قدما- أي تقدما- فيما تكرهه الدنيا من التعزز والتعظم عليها وترك الانقياد لها. قال الواحدي: وإن شئت قلت في كرائهها- أي في كرائه أهلها- يعني زيدي تقدما في الحروب، وهي- الحروب- مكروهة عند أهل الدنيا، ولذلك تسمى الحرب الكريهة، فيكون الكلام من باب حذف المضاف.
فَــلا عَـبَرَت بـي سـاعَةٌ لا تُعِـزُّني ولا صَحِــبتني مُهجَـة تَقبَـلُ الظلْمـا يقول: لا مرت بي ساعة- لحظة- لا أكون فيها عزيزا، ولا صحبتني نفس تقبل أن يظلمها أحد.
شرح البرقوقي
أَلاَ لا أُرِي الأَحــداث مَدحًـا ولا ذَمَّـا فمــا بَطشُـها جَـهلاً ولا كَفُّهـا حِلْمـا الأحداث: نوب الدهر ومصائبه. والبطش: الأخذ بغلبة وقوة. يقول: لا أحمد الحوادث السارة ولا أذم الضارة ؟ فإنها إذا بطشت بنا أو آذتنا لم يكن ذلك جهلا منها وإذا كفت عن البطش والضرر لم يكن ذلك حلما يعني أن الفعل في جميع ذلك ليس لها، وإنما تنسب الأفعال إليها استعارة ومجازا.
إلـى مثـلِ مـا كـانَ الفَتَى مَرجِعُ الفَتَى يعُـودُ كمـا أُبـدِي ويُكـري كما أَرمَى أبدي: هي أبدئ: أي أبدأه الله: أي خلقه، فأصله الهمز، و لينه للضرورة ؛ وأ كرى الشيء: نقص. وأرمى: أربى وزاد. يقول: إن كل واحد يرجع إلى مثل ما كان عليه من العدم ويعود إلى حالته الأولى كما أبدئ وينقص ما حدث فيه من الحياة كما زاد، وإذن لا ذنب للحوادث حتى أذمها أو أحمدها. هذا: وأكرى ؟ كما أنه بمعنى زاد- أتى بمعنى نقص، فهو من الأضداد، يقال أكرى الرجل: قل ماله أو نفد زاده. وقد أكرى زاده: أي نقص، قال لبيد:
كَذِي زادٍ مَتَى مَا يُكْرِ منهُ فَليسَ وَرَاءهُ ثقةٌ بِزَادِ
وقال الآخر يصف قدرا:
يُقسم ما فيها فإنْ هي قَسمت فذاكَ وَإن أَكْرَتْ فعن أهلها تكري
قسمت: عمت في القسم، وإن أكرت: أراد وإن نقصت، فعن أهلها تنقص: أي القدر.
لَــكِ اللّــهُ مـن مَفجوعَـةٍ بحبيبِهـا قَتيلَــةِ شَـوْقٍ غَـيرِ مُلحِقِهـا وَصْمـا لك الله: دعاء لها، و (من) - من مفجوعة-: زائدة، ومفجوعة، في موضع نصب على التمييز والوصم: العيب وعنى بحبيبها: نفسه. يدعو لها ويقول: هي مفجوعة قتلت بسبب شوقها إليه، وليس هذا الشوق مما يلحق بها عيبا، لأنه شوق الأم إلى ولدها.
بكَــيتُ عليهــا خِيفَـةٌ فـي حَياتِهـا وذاقَ كِلانــا ثكْــلَ صاحبِــهِ قِدْمـا
الثكل: الفقد. وقدما: قديما. يقول: كنت أبكي عليها في حياتها خوفا من فقدها، وصرب الدهر من ضرباته وفرق بيننا وتغربت عنها فذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قبل الموت، قالوا: وفي المصراع الأول نظر إلى بيت الحماسة:
فيبكِي إنْ نَأَوْا شَوْقًا إليهم ويَبْكِي إنْ دَنَوْا خَوْفَ الفراقِ
(من أبيات جميلة منها:
وَماَ في الأرض أشقَى من مُحِبٍّ وَإنْ وَجَدَ اَلهَوَى حلوَ المَذَاقِ
تراهُ باكِيا فيي كَلّ حِين مخافةَ فُرْقَةٍ أو لاشتياَقِ
فيبكي................. البيت وبعده:
فتسخُن عينُهُ عند التَّنَائِي وَتَسْخُن عينُهُ عند التلاقي
عَـرَفتُ الليـالي قَبـلَ مـا صَنَعَتْ بِنا فلَمـا دَهتنـي لـم تَـزِدْني بِهـا عِلْمـا يقول: كنت عالما بالليالي وتفريقها بين الأحبة قبل أن تصنع بنا هذا التفريق فلما دهتنا هذه المصيبة لم تزدني بها علما، قال العكبري : وهذا من قول الحكيم: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل حولها لم يجزع بحولها. ومن قول أبي تمام:
حَلَّمَتْنِي زَعَمْتُمْ وَأَرَانِي قَبْلَ هَذَا التَّحْلِيمِ كُنْتُ حَلِيمَا
ومن قول بعض العرب وقد مات ولده فلم يجزع فقيل له في ذلك، فقال أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
أَتاهــا كِتــابي بَعـدَ يـأسٍ وتَرحَـةٍ فمـاتت سُـرُورًا بـي فمُـتّ بهـا غَمَّا
الترحة: الاسم من الترح؛ وهو الحزن يقول: اشتد حزني عليها فكأني مت بها غما، و ماتت هي من شدة سرورها بحياتي بعد إياسها مني.
حَــرامٌ عـلى قلبـي السُّـرُورُ فـإنني أَعُـدُّ الـذي مـاتَت بِـهِ بَعدَهـا سُـمّا يقول: السرور حرام علي فإنني بعد موتها بالسرور أعده سما فأتجنبه وأحرمه على نفسي.
رَقـا دَمْعُهـا الجـاري وجَـفَّتْ جُفُونُها وفـارَقَ حُـبّي قَلبَهـا بَعـدَ مـا أَدْمَـى رقأ الدمع والدم: انقطع، فأصله الهمز ؛ ولكنه لينه هنا للضرورة يقول: لما ماتت انقطع ما كان يجري من دمعها على فراقي ويبست جفونها عن الدمع وسليت عني بعدما أدمى حبي قلبها في حياتها.
ولــم يُســلِها إِلا المَنايــا وإِنَّمــا أَشَـدُّ مِـنَ السُّـقْمِ الـذي أَذهَـبَ السُّقما يقول: لم يسلها عني إلا الموت وقد ذهب به ما نالها من السقم جزعًا على، ولكن الذي أذهب ذلك السقم كان أشد عليها من السقم كما قال أبو تمام:
أَقُولُ وَقَدْ قَالُوا اسْتَرَاحَ بِمَوْتِهَا مِنَ الْكَرْبِ رُوحُ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنَ الْكَرْبِ
ومثله له:
أَجَارَكَ الْمَكْرُوهُ مِن مِثْلِهِ فَاقِرةٌ نَجَّتْكَ مِنْ فَاقِرةٍ
(الفاقرة: الداهية الكاسرة لفقار الظهر.)
وكُـنْتُ قُبيـلَ المَـوتِ أَسـتَعظِمُ النَّوَى فقد صارَتِ الصُّغرى التَّي كانَتِ العُظْمى قبيل: تصغير قبل ؛ والنوى البعد. يقول: كنت قبل موتها استعظم فراقها فلما ماتت صارت حادثة الفراق صغيرة وكانت عظيمة، يعني أن موتها أعظم من فراقها.
هَبِينـي أخـذتُ الثـأرَ فيـكِ مِنَ العِدَى فكَـيفَ بـأخذِ الثـأرِ فيـكِ مـنَ الحُمَّى
لَوْ كُنْتَ تُمْنَعُ خاض نَحْوَكَ فِتيَةٌ مِنَّا بِحارَ عَوَامِلٍ وَشِفارِ
يقول: اجعليني واحسبيني بمنزلة من أخذ ثأرك من الأعداء لو قتلوك فكيف آخذ ثأرك من العلة التي قتلتك، وهي العدو الذي لا سبيل إليه قالوا وفيه نظر إلى قول عمران بن حطان:
وَلَمْ يُغْنِ عَنْكَ الْمَوْتُ يَا حَمْزَ إِذْ أَتَى رِجَالٌ بِأَيْدِيهمْ سُيُوفٌ قَوَاضِبُ
(حمز: ترخيم حمزة، وقواضب: قواطع: ) وأحسن فيه أبوالحسن التهامي:
لَوْ كُنْتَ تُمْنَعُ خَاضَ نَحْوكَ فِتْيَةٌ مِنَّا بِحَارَ عَوَامِلٍ وَشِفَارٍ
(عوامل: جمع عامل وعامل الرمح: صدره، والمراد الرماح نفسها، والشفار: جمع شفرة والشفرة ما عرض من الحديد وحدد، والمراد السيوف.)
ومــا انسَـدَّت الدنيـا عـليَّ لِضيقِهـا ولكِــن طَرفًــا لا أَراكِ بِـهِ أَعمَـى يقول: إنه قد صار لفقدها كالأعمى فانسدت عليه المسالك لذلك، لا لأن الدنيا قد ضاقت.
تَغَــرَّبَ لا مُســتَعظِمًا غَـيرَ نَفْسـهِ ولا قـــابِلاً إلاَّ لخالِقِـــهِ حُكْمــا يقول: ولدت مني رجلا تغرب عن بلاده: أي خرج عن بلده إلى الغربة لأنه لا يستعظم غير نفسه، فأراد أن يغادر الذين كانوا يتعظمون عليه بغيراستحقاق، ولا يقبل حكم أحد عليه إلا حكم اللّه الذي خلقه
ولا ســـالكًا إِلا فـــؤَادَ عَجاجَــةٍ ولا واجِـــدًا إلا لِمكْرُمَــةٍ طَعْمــا العجاجة: الغبار. يقول. ولا أسلك طريقا إلا قلب غبار الحرب، ولا أستلذ طعم شيء إلا طعم المكارم: يعني لا أجد لذتي إلا في الحرب والمكارم.
يَقُولـونَ لـي مـا أَنْـتَ فـي كُـلّ بَلْدَةٍ ومـا تَبتغـي؟ مـا أَبتَغي جَلَّ أَنْ يُسمَى ما أنت: قال بعض الشراح: أي ما أنت صانع. على حذف الخبر، أو ما تصنع على حذف الفعل وإبراز الضمير. وقال العكبري. (ما) واقعة على صفات من يعقل فإذا قال ما أنت، فالمراد أي شيء أنت فتقول كاتب أو شاعر أو فقيه. يقول: يقول الناس لي لما يرون من كثرة أسفاري: أي شيء أنت فإنا نراك في كل بلدة وما الذي تطلبه ؟ فأقول لهم: إن ما أطلبه أجل من أن يذكر اسمه، يعني قتل الملوك والاستِيلاء على ملكهم.
ومـا الجـمعُ بيـنَ الماءِ والنّارِ في يَدِي بِـأَصْعَبَ مِـنْ أَنْ أَجـمَعَ الجَـدَّ والفَهْما الجد: الحظ والبخت. يقول: إن الفهم والعلم والعقل لا تجتمع مع الحظ في الدنيا، وليس الجمع بين الضدين كالماء والنار بأصعب من الجمع بين الحظ والفهم: أي فهما لا يجتمعان كما لا يجتمع الضدان، وهذا كالتفسير لقول الحمدوني:
إِنّ المُقَدِّمَ فِي حِذْقٍ بِصَنْعَتِهِ أَنّى تَوَجّهَ فِيهَا فَهُوَ مَحْرُومُ
وقد وفينا القول على هذا المعنى في غير موضع من هذا الشرح.
وإِنّــي لَمِــن قَــومٍ كـأنَّ نُفوسـهُم بِهـا أَنـفٌ أَنْ تَسـكُنَ اللحـمَ والعَظْمَـا الأنف: الاستنكاف من الشيء. يقول: إني من قوم ديدنهم التعرض أبدا للحرب ليقتلوا، فكأن نفوسنا ترى السكنى في أجساد هي لحم وعظم عارا تأنف منه، ومن ثم تتطلع لسكنى غيرها لتتخلص من هذا العار: أي تختارالقتل على الحياة. قال الواحدي ولو قال: كأن نفوسهم لكان أوجه لإعادة الضمير على لفظ الغيبة، لكنه قال نفوسنا لأنهم هم القوم الذين عناهم، ولأن هذا أمدح.
كَـذَا أَنـا يـا دنْيـا إِذا شـئْتِ فـاذْهَبي ويـا نَفْسِ زيـدي فـي كَرائِههـا قُدمـا الكرائه: جمع كريهة، فعيلة بمعنى مفعولة. يقول- للدنيا-: أنا كما وصفت نفسي لا أقبل ضيما ولا أسف لدنية، فاذهبي عني إن شئت فلست أبالي بك ؛ ويا نفس زيدي قدما- أي تقدما- فيما تكرهه الدنيا من التعزز والتعظم عليها وترك الانقياد لها. قال الواحدي: وإن شئت قلت في كرائهها- أي في كرائه أهلها- يعني زيدي تقدما في الحروب، وهي- الحروب- مكروهة عند أهل الدنيا، ولذلك تسمى الحرب الكريهة، فيكون الكلام من باب حذف المضاف.
فَــلا عَـبَرَت بـي سـاعَةٌ لا تُعِـزُّني ولا صَحِــبتني مُهجَـة تَقبَـلُ الظلْمـا يقول: لا مرت بي ساعة- لحظة- لا أكون فيها عزيزا، ولا صحبتني نفس تقبل أن يظلمها أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق